الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***
{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)} وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ الله الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ...} الآية، هذه الحالةُ هي على ما يظهر مع الأحيان من إحياءِ الأرض، والنبات؛ وإعادته؛ ونحو ذلك مما هو دليل على البعث من القبور، ثم أمر تعالى نبيَّه محمَّداً صلى الله عليه وسلم، ويحتملُ أن يكون إبراهيم عليه السلام بأن يأمرهم على جهة الاحتجاج بالسير في الأرضِ، والنظر في أقطارها، و{النشأة الأخرة}: نشأةُ القيام من القبور. وقوله تعالى: {وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض وَلاَ فِي السماء...} الآية، قال ابن زيد: لا يعجزه أهلُ الأرض في الأرض، ولا أهلُ السَّمَاءِ في السماء؛ إن عصوه. وقيل: معناه: ولا في السماء لو كنتم فيها. وقيل: المعنى: ليس للبشر حيلةٌ إلى صعودٍ أو نزول؛ يفلتون بها. قال قتادة: ذَمَّ اللّه قوماً هانوا عليه؛ فقال: {أولئك يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي...} الآية. قال * ع *: وما تَقَدَّمَ من قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ...} إلى هذه الآيةِ المستأَنفةِ؛ يُحْتَمَلُ أَن يكونَ خطاباً لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، ويكون اعتراضا في قصَّة إبراهيم عليه السلام، ويحتمل أن يكونَ خطاباً لإبراهيم عليه السلام؛ ومجاورة لقومه؛ وعند آخر ذلك ذكر جواب قومه. وقوله تعالى: {فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار} أي بأن جعلها برداً وسلاماً. قال كعب الأحبار رضي اللّه عنه: ولم تحرقِ النارُ إلا الحبلَ الذي أوثقوه به؛ وجعل سبحانه ذلك آية، وعبرةً، ودليلاً على توحيده لِمن شرح صدره؛ ويسره للإيمان. ثم ذكر تعالى أن إبراهيم عليه السلام قررهم على أنَّ اتخاذَهم الأوثانَ؛ إنما كان اتباعاً من بعضهم لبعضٍ؛ وحفظاً لمودتهم الدنيوية؛ وأنهم يوم القيامة يَجْحَدُ بعضُهم بعضاً، ويتَلاَعَنُون؛ لأن توادَّهم كان على غير تقوى، {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67].
{فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آَيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)} وقوله تعالى: {فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ} معناه: صدق، وآمن: يتعدى باللام والباء، والقائل {إِنِّي مُهَاجِرٌ} هو إبراهيم عليه السلام. قاله قتادةُ والنخعيُّ؛ وقالت فرقةٌ: هو لوط عليه السلام. وقوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب وَءَاتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا...} الآية، الأجرُ الذي آتاهُ اللّه في الدنيا: العافيةُ من النار ومن المَلِكِ الجائرِ. والعملُ الصالحُ؛ أو الثناءُ الحسنُ؛ قاله مجاهد ويدخل في عموم اللفظ غيرُ ما ذُكِرَ. قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي الأخرة لَمِنَ الصالحين}، أي: في عداد الصالحين الذين نالوا رضا اللّه عز وجل، وقول لوط عليه السلام: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال وَتَقْطَعُونَ السبيل}، قالت فرقة: كان قطعُ الطريقِ بالسلب فاشياً فيهم، وقيل غيرُ هذا، والنادي، المجلس الذي يجتمع الناس فيه. واخْتُلِفَ في هذا المُنْكَرِ الذي يأتونه في ناديهم: فقالت فرقة: كانوا يحذفونَ الناسَ بالحصباءِ؛ ويَسْتَخِفُّونَ بالغريب والخاطر عليهم؛ وروته أم هانئ عن النبي صلى الله عليه وسلم: وَكَانَتْ خُلقهُمْ مُهْمَلَةً؛ لاَ يَرْبِطُهُمْ دِينٌ؛ وَلاَ مُرُوءَةٌ، وقال مجاهد: كانوا يأتون الرجالَ في مَجَالِسِهِمْ؛ وبعضُهُمْ يرى بَعْضاً. وقال ابن عباس: كانوا يَتَضَارَطُونَ ويَتَصَافَعُونَ في مجالسهم، وقيل غير هذا، وقد تقدم قصص الآيةِ مكَرِّراً والرجزُ: العذابُ. وقوله تعالى: {وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا}؛ أي: من خبرها وما بقي من آثارها، والآية: موضع العبرة، وعلامة القدرة، ومزدجر النفوس عن الوقوع في سُخْط اللّه تعالى.
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)} وقوله تعالى: {وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْباً فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الأخر...} الآية، الرجاء في الآية: على بابه، وذهب أبو عُبَيْدَةَ إلى أن المعنى؛ وخافوا، و{تَعْثًواْ} معناه: تُفْسِدُوا، و{السبيل}: هي طريق الإيمان، ومنهجُ النجاة من النار، و{مَا كَانُواْ سابقين}، أي: مفلتين أخذنا وعقابنا، وقيل: معناه: وما كانوا سابقينَ الأمَمَ إلى الكُفْر، وباقي الآية بيِّن.
{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)} وقوله تعالى: {إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ}، قيل: معناه: إن اللّه يعلم الذين تدعون من دونه من جميع الأشياء، وقيل: ما نافية؛ وفيه نظر، وقيل: ما استفهامية، قال جابر: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العالمون}: العَالِمُ: مَنْ عَقَلَ عَنِ اللّهِ تعالى فَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ وانتهى عَنْ مَعْصِيَتِهِ. قوله تعالى: {وَخَلَقَ الله السموات والأرض بالحق} أي: لا للعبث واللعب؛ بل ليدل على سلطانه؛ وتثبيت شرائعه، ويضع الدلالة لأهلها ويعم بالمنافع؛ إلى غير ذلك مما لا يحصى عداً. ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بالنفوذ لأمره؛ وتلاوة القرآن الذي أُوحِيَ إليه وإقامة الصلاة، أي: إدامتها؛ والقيام بحدودها. ثم أخبر سبحانه حُكْماً منه أن الصلاة تنهى صاحبَها وممتثلَها عن الفحشاء والمنكر. قال * ع *: وذلك عندي بأن المصلي إذا كان على الواجبِ من الخشوعِ، والإخبات وتذكرِ اللّه، وَتَوَهِّمِ الوقوف بين يديه، وإنَّ قلبه وإخلاصه مُطّلَعٌ عليه مَرْقُوبٌ صَلُحَتْ لذلك نَفْسُهُ، وتذلَّلَتْ، وخَامَرَها ارتقابُ اللّه تعالى؛ فاطَّرَدَ ذلك في أقواله، وأفعاله، وانتهَى عن الفحشاء والمنكر، ولم يكَدْ يَفْتُرُ من ذلك حتى تظله صلاةٌ أخْرى؛ يرجع بها إلى أفضل حاله؛ فهذا معنى هذا الإخبار؛ لأن صلاةَ المؤمن هكذا ينبغي أن تكون، وقد رُوِيَ عن بعض السلف: أنه كان إذا أقام الصلاة ارتعد، واصفر لونُه، فكُلِّم في ذلك، فقال: إني أقف بين يدي اللّه تعالى. قال * ع *: فهذه صلاة تنهى ولا بد عن الفحشاء والمنكر، وأما من كانت صلاته دائرةً حول الإجزاء، بلا تذكر ولا خشوع، ولا فضائل؛ فتلك تترك صاحبَها من منزلته حيثُ كانَ. وقوله تعالى: {وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ} قال ابن عباس وأبو الدرداء وسلمان وابن مسعود وأبو قرة: معناه: ولذكر اللّه إياكم؛ أكبر من ذكركم إياه. وقيل: معناه: ولذكر اللّه أكبر؛ مع المداومة من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر. وقال ابن زيد وغيره: معناه: ولذكر اللّه أكبر من كل شيء. وقيل لسلمان: أيُّ الأعمالِ أفضل؟ فقال: أَمَا تَقْرَأُ {وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ}. والأحاديثُ في فَضْلِ الذّكْر كثيرةٌ؛ لا تنحصر. وقال ابن العربي في «أحكامه»: قوله: و{لَذِكْرُ الله أَكْبَرُ} فيه أربعة أقوال. الأول: ذكر اللّه لكم أفضلُ من ذكرِكم له؛ أضاف المصدر إلى الفاعل. الثاني: ذكر اللّه أفضل من كل شيء. الثالث: ذكر اللّه في الصلاة؛ أفضل من ذكره في غيرها؛ يعني: لأنهما عبادتان. الرابع: ذكر اللّه في الصلاة؛ أكبر من الصلاة؛ وهذه الثلاثة الأخيرة من إضافة المصدر إلى المفعول، وهذه كلها صحيحةٌ، وإن للصلاةِ بركةً عظيمةً، انتهى. قال * ع *: وعندي، أن المعنى: ولذكر اللّه أكبر على الإطلاق، أي: هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر، فالجُزء الذي منه في الصلاة؛ يفعل ذلك، وكذلك يفعل في غير الصلاة، لأنَّ الانتهاءَ لا يكونُ إلا من ذَاكِرٍ للَّهِ تعالى، مراقب له، وثوابُ ذلك الذكر أن يذكُرَه اللّه تعالى، كما في الحديث الصحيح: " وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ " والحركاتُ التي في الصلاة؛ لا تأثيرَ لها في نهي، والذكرُ النافع هو مع العلم؛ وإقبال القلب وتفرُّغه إلا من اللّه تعالى. وأما ما لا يتجاوز اللسانَ ففي رتبة أخرى، وذكر اللّه تعالى للعبد؛ هو إفاضةُ الهدى ونور العلم عليه؛ وذلك ثمرة ذكر العبدِ ربَّه. قال اللّه عز وجل: {فاذكروني أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]. وعبارة الشيخ ابن أبي جمرة: {وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ} معناه: ذكره لك في الأزل أن جعلك من الذاكرينَ له؛ أكبرٌ من ذكرِك أنت الآن له، انتهى. قال القُشَيْريُّ في «رسالته» الذكر ركن قوي في طريق الحق سبحانه؛ وهو العمدة في هذا الطريق؛ ولا يصل أحد إلى اللّه سبحانه إلا بدوام الذكر، ثم الذكرُ على ضربين: باللسان، وذكرٌ بالقلب، فذكر اللسان: به يصل العبد إلى استدامة ذكر القلب، والتأثيرُ لذكر القلب، فإذا كان العبد ذاكراً بلسانه، وقلبه؛ فهو الكامل في وصفه، سمعتُ أبا علي الدقاق يقول: الذكر: منشورُ الولاية، فمن وُفِّقَ للذكر؛ فقد وُفِّقَ للمنشور، ومن سُلِبَ الذكرَ فقد عُزِلَ والذكر بالقلب مستدام في عموم الحالات. وأسند القشيريُّ عن المظفر الجصاص قال: كنت أنا ونصرَ الخراط ليلةً في موضع؛ فتذاكرنا شَيْئاً من العلم؛ فقال الخراط: الذاكر للَّه تعالى فائدته في أول ذكره: أنْ يعلمَ أنَّ اللّه ذكَره؛ فبذكر اللّه له ذِكرُه، قال: فخالفته، فقال: لو كان الخضرُ ها هنا لشهد لصحته، قال فإذا نحن بشيخٍ يجيء بين السماء والأرض، حتى بلغ إلينا وقال صدق؛ الذاكر للَّه بفضل اللّه، وذكره له ذكرَه، فعلمنا أنه الخضر عَليه السلام، انتهى. وباقي الآيةِ ضَرْبٌ من التَوعُّدِ وحثٌّ على المراقبةِ، قال البَاجِيُّ في «سنن الصالحين»: قال بعض العلماء: إن اللّه عز وجل يقول: " أَيُّمَا عَبْدٍ اطلعت عَلَى قَلْبِهِ؛ فَرَأَيْتُ الغَالِبَ عَلَيْهِ التَّمَسُّكَ بِذِكْرِي؛ تَوَلَّيْتُ سِيَاسَتَهُ وَكُنْتُ جَلِيسَهُ وَمُحَادِثَهُ وَأَنِيسَهُ " انتهى.
{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)} وقوله تعالى: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ}. هذه الآية مَكيةٌ، ولم يكن يومئذٍ قتالٌ، وكانتِ اليهودُ يومئذٍ بمكة؛ وفيما جاورها، فربما وقع بينهم وبين بعض المؤمنين جدالٌ واحتجاجٌ في أمر الدينِ؛ وتكذيب، فأَمر اللّه المؤمنين ألا يجادلوهم إلا بالتي هي أحسن؛ دعاءً إلى اللّه تعالى وملاينةً، ثم استثنى من ظلم منهم المؤمنين؛ وحصلت منه أذية؛ فإن هذه الضيفة استُثْنِيَ لأهل الإسلام معارضَتُهَا؛ بالتغيير عليها، والخروج معها عن التي هي أحسن. ثم نُسِخَ هذا بَعْدُ بآية القتال؛ وهذا قول قتادة؛ وهو أحسن ما قيل في تأويل الآية. * ت *: قال، عز الدين بن عبد السلام في «اختصاره لقواعد الأحكام»؛ فائدة: لا يجوز الجدالُ والمناظرةُ إلا الإظهار الحقِّ ونُصْرَتِهِ؛ ليُعْرَفَ ويُعْمَلَ به، فمن جادل لذلك؛ فقد أطاع، ومن جادَلَ لغرضٍ آخر، فقد عصى وخَابَ، ولا خير فيمن يتحيَّلُ لِنُصْرَةِ مذهبه؛ مع ضعفه وبُعْدِ أدلته من الصواب، انتهى. تنبيه: رَوَى الترمذيُّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قَالَ: " الحَيَاءُ وَالْعِيُّ: شُعْبَتَانِ مِنَ الإيمَانِ، والبَذَاءُ وَالبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنَ النَّفَاقِ " وروى أبو داود والترمذيُّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنَّ اللّهَ يَبْغَضُ البَلِيغَ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ البَقَرَةُ بِلِسَانِهَا " حديث غريب، انتهى؛ وهما في «مصابيح البغوي». وروى أبو داودَ عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " مَنْ تَعَلَّمَ صَرْفَ الكَلاَمِ لِيَسْبِيَ بِه قُلُوبَ الرِّجَالِ، أَوِ النَّاسِ لَمْ يَقْبَلِ اللّهُ مِنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ صَرْفاً وَلاَ عَدْلاً " انتهى. وقوله تعالى: {وَقُولُواْ ءَامَنَّا} الآية، قال أبو هريرة: كان أهل الكتاب يقرأون التوراةَ بالعبرانيةِ؛ ويفسرونها بالعربية للمسلمين، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ، وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ»، وقُولُوا: {ءَامَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} " وَرَوَى ابنُ مسعود؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: " لاَ تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ، فَإنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوْكُمْ؛ وَقَدْ ضَلُّوا: إمَّا أَنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ، وإمَّا أَنْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ ". وقوله تعالى: {فالذين ءاتيناهم الكتاب} يريدُ: التوراة والإنجيل؛ كانوا في وقت نزول الكتاب عليهم يؤمنون بالقرآن. ثم أخبر عن معاصري نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن منهم أيضاً مَنْ يؤمن به ولم يكونوا آمنوا بَعْدُ، ففي هذا إخبارٌ بغيب؛ بَيَّنَه الوجودُ بَعْدَ ذلك. قوله تعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بآياتنا إِلاَّ الكافرون} يُشْبِهُ أَن يُرَادَ بهذا الانحناءِ كفارُ قريش. ثم بيَّن تَعَالى الحجةَ وأوضحَ البرهانَ: أَن مما يقوى أَنَّ نزولَ هذا القرآن مِن عِنْدِ اللّه؛ أن محمداً عليه السلام جاء به في غاية الإعجاز والطُّول والتَّضَمُنِ للغيوب، وغير ذلك؟ وهو أمِّيَّ؛ لا يقرأ ولا يكتب؛ ولا يتلو كتاباً ولا يخط حروفاً؛ ولا سبيلَ له إلى التعلم، ولو كان ممن يقرأ أو يخط، لارتاب المبطلون، وكان لهم في ارتيابهم مُعَلَّق، وأما ارتيابهُم مع وضوحِ هذهِ الحجةِ؛ فظاهرٌ فسادهُ {بَلْ هُوَ ءايات بينات} يعني: القرآن، ويحتمل: أن يعودَ على أمرِ محمد صلى الله عليه وسلم و{الظالمون} و{المبطلون} يَعُمُّ لفظهما كلَّ مكذِّبٍ للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكنَّ عَظُمَ الإشارةَ بهما إلى قريش؛ لأنهم الأهم؛ قاله مجاهد.
{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)} {وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايات مِّن رَّبِّهِ} الضمير في: {قَالُوا} لقريش ولبعض اليهود؛ لأنهم كانوا يعلِّمون قريشاً مثل هذه الحجة؛ على ما مر في غير ما موضع. ثم احتج عليهم في اقتراحهم آية بأمر القرآن الذي هو أعظم الآيات؛ ومعجز للجن والإنس؛ فقال سبحانه: {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب...}. وقوله: {ءَامَنُواْ بالباطل} يريد: الأصنام وما في معناها.
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)} وقوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} يريد: كفارَ قريش، وباقي الآية بَيِّنٌ مما تقدم مكرّراً واللّه الموفق بفضله. و{بَغْتَةَ}: معناه: فجأة: وهذا هو عذاب الدنيا؛ كيوم بدر ونحوه. ثم توعدهم سبحانه بعذاب الآخرة في قوله: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ...} الآية. وقوله تعالى: {ياعبادي الذين ءَامَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فاعبدون...} الآيات، هذه الآيات نزلت في تحريض المؤمنين الكائنين بمكَّة على الهِجْرَة. قال ابن جُبَيْر، وعطاء ومجاهده: إن الأَرْض التي فيها الظلم والمنكر؛ تترتب فيها هذه الآية وتلزمُ الهجرةُ عنها إلى بلد حق؛ وقاله مالك.
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)} وقوله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} تحقيرٌ لأمرِ الدنيا ومخاوفِها، كأن بعضَ المؤمنين نظر في عاقبةٍ تلحقه في خروجه من وطنه؛ أنه يموت أو يجوع ونحو هذا؛ فحقَّر اللّه سبحانه شَأْنَ الدنيا، أي وأنتم لا محالة ميتون ومُحْشَرُون إلينا، فالبِدَارُ إلى طاعة اللّه والهجرة إليه أولى ما يُمْتَثَلُ. ذكر هشام بن عبد اللّه القرطبيُّ في تاريخه المسمى ب «بهجة النفس» قال: بينما المنصور جالسٌ في منزله في أعلى قصره؛ إذ جاءه سهم عائر فسقط بين يديه؛ فذُعِرَ المنصورُ منه ذُعْراً شديداً، ثم أخذه فجعل بقلِّبه، فإذا مكتوبٌ عليه بين الرِّيشَتَيْنِ: [الوافر] أَتَطْمَعُ فِي الْحَيَاةِ إلَى التَّنَادِي *** وَتَحْسَبُ أَنَّ مَالَكَ مِنْ مَعَادِ سَتُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِكَ وَالْخَطَايَا *** وََتُسْأَلُ بَعْدَ ذَاكَ عَنِ الْعِبَادِ ومن الجانب الآخر: [البسيط] أَحْسَنْتَ ظَنَّكَ بِالأَيَّامِ إذْ حَسُنَتْ *** وَلَمْ تَخَفْ سُوءَ مَا يَأْتِي بِهِ الْقَدَرُ وَسَاعَدَتْكَ اللَّيَالِي فاغتررت بِهَا *** وَعِنْدَ صَفْوِ اللَّيَالِي يَحْدُثُ الكَدَرُ وفي الآخر: [البسيط] هِيَ الْمَقَادِيرُ تَجْرِي فِي أَعِنَّتِهَا *** فاصبر فَلَيْسَ لَهَا صَبْرٌ على حَالِ يَوْماً تُرِيكَ خَسِيسَ القَوْمِ تَرْفَعُه *** إلَى السَّمَاءِ وَيَوْماً تَخْفِضُ العَالِي ثم قرأ على الجانب الآخر من السهم: [البسيط] مَنْ يَصْحَبِ الدَّهْرَ لاَ يَأْمَنْ تَصَرُّفَهُ *** يَوْماً فَلِلدَّهْرِ إحْلاَءٌ وَإمْرَارُ لِكُلِّ شَيْءٍ وَإنْ طَالَتْ سَلاَمَتُهُ *** إذَا انتهى مَدُّهُ لاَ بُدَّ إقْصَارُ انتهى. وقرأ حمزة: «لنثوينهم من الجنة غرفا»: من أثوى يُثْوِي بمعنى: أقام. وقوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ...} الآية: تحريضٌ على الهجرة؛ لأَن بعضَ المؤمنين فكَّر في الفقر والجوع الذي يلحقه في الهجرة، وقالوا: غربةٌ في بلد لاَ دَارَ لنا فيه ولا عقار، ولا من يطعم، فمثل لهم بأَكثر الدواب التي لا تتقوت ولا تدخر، ثم قال تعالى: {الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} فقوله: {لاَّ تَحْمِلُ} يجوز أن يريدَ مِن الحَمْلِ، أي: لا تَنْتَقِلُ ولا تنظر في ادخاره. قاله مجاهد وغيره. قال * ع *: والادِّخار ليسَ من خُلُق الموقنين، وقد قال رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لاِبْنِ عُمَرَ: " كَيْفَ بِكَ إذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةِ منَ النَّاسِ؛ يُخَبِّئُونَ رِزْقَ سَنَةٍ بِضَعْف اليَقِينِ " ويجوز أن يريدَ من الحمالة؛ أي: لا تَتَكَفَّلُ لنفسها. قال الداووديُّ: وعن علي بن الأقمر: {لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا} أي: لا تدخر شيئاً لغدٍ، انتهى. وفي الترمذي عن عمر بن الخطاب قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً " قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ. انتهى. ثم خاطب تعالى في أمر الكفار وإقامة الحجة عليهم، بأَنهم إن سُئِلوا عن الأمور العظام التي هي دلائل القدرة، لم يكن لهم إلا التسليمُ بِأَنها للَّه تعالى، و{يُؤْفَكُونَ} معناه: يصرفون.
{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} وقوله تعالى: {وَمَا هذه الحياة الدنيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ} وصفَ اللّهُ تعالى الدنيا في هذه الآيةِ بأنها لهوٌ ولعب، أي: ما كان منها لغير وجه اللّه تعالى؛ وأما مَا كان للَّه تعالى فهو من الآخرة، وأما أمورُ الدنيا التي هي زائدة على الضروري الذي به قِوَامُ العَيْشِ، والقوةُ على الطاعات؛ فإنما هي لهو ولعب، وتأملْ ذلك في الملابِس، والمطاعِم، والأقوال، والمكتسبات، وغير ذلك، وانظر أن حالةَ الغني والفقير من الأمور الضرورية واحدة: كالتنفسِ في الهواء، وسد الجوع، وستر العورة، وتَوَقِّي الحر والبرد؛ هذه عظم أمر العيش، و{الحيوان} و{الحياة} بمعنًى، والمعَنى: لا موت فيها، قاله مجاهد وهو حسن، ويقال: أصله: حييان؛ فأبدلت إحداهما واواً لاجتماع المِثْلَين. ثم وقَفَهُمْ تعالى على حالهم في البحر؛ عند الخوف العظيم؛ ونسيانهم عند ذلك للأصنام، وغيرها، على ما تقدم بيانُه في غير هذا الموضع: و{لِيَكْفُرُواْ} نصبٌ ب «لام كي» ثم عدَّد تعالى على كَفَرَةِ قريش نعمتَه عليهم؛ في الحَرَمِ و«المثوى»: موضع الإقامة، وألفاظ هذه الآية في غايةِ الاقْتِضَابِ والإيجاز؛ وجمع المعاني. ثم ذكر تعالى حالَ أوليائه والمجاهدين فيه. وقوله: {فِينَا} معناه: في مرضاتنا وبغيةِ ثوابِنا. قال السدي وغيره: نزلت هذه الآيةُ قبل فَرضِ القتال. قال * ع *: فهي قَبْلَ الجهادِ العَرْفي وإنما هو جِهَاد عامُّ في دين اللّه وطلب مرضاته. قال الحسن بن أبي الحسن: الآيةُ في العُبَّادِ. وقال إبراهيم بن أدهم: هي في الذين يعملون بما علموا. وقال أبو سليمان الدَّارانيُّ: ليس الجهادُ في هذه الآية قتالَ العدو فقط؛ بل هو نَصْرُ الدِّين والردُّ على المبطلينَ وقمعُ الظالمينَ؛ وأعظمُه الأمر بالمعروفِ، والنهيُ عن المنكرِ، ومنه، مجاهدةُ النفوسِ في طاعةِ اللّه عز وجل وهو الجهاد الأكبر؛ قاله الحسن وغيره، وفيه حديثٌ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم " رَجَعْتُمْ مِنَ الْجِهَادِ الأَصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الأَكْبَرِ " و«السُّبل» هنا يحتملُ أن تكونَ طُرَقَ الجنةِ ومَسَالِكَهَا، ويحتملُ أن تكونَ سبلَ الأعمال المؤَدِّيَةِ إلى الجنةِ، قال يوسف بن أسباط: هي إصلاح النيّة في الأعمال، وحب التَزَيُّدِ والتَفَهُّمِ، وهو أن يُجَازَى العبدُ عَلى حَسَنَةٍ بازدياد حسنةٍ وبعلمٍ يَنْقَدِحُ مِن عِلْمٍ متقدمٍ. قال * ص *: {والذين جاهدوا}: مبتدأ خبرُه القسمُ المحذوفُ، وجوابُه وهو: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ}، انتهى. وقال الثعلبي: قال سهل بن عبد اللّه: {والذين جاهدوا} في إقامة السنة {لَنَهْدِيَنَّهُمْ} سبل الجنة؛ انتهى. واللام في قوله {لَمَعَ} لام تأكيد.
{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)} قوله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الروم} قرأ الجمهور: «غُلبت» بضم الغين، وقالوا: معنى الآية: أنه بلغ أهلَ مكةَ أنّ الملكَ كِسْرَى هَز جَيْشَ الروم بأذْرِعَاتٍ؛ وهي أدنى الأرض إلى مكة؛ قاله عكرمة. فَسُرَّ بذلك كفارُ مكةَ فبشر اللّه تعالى المؤمنين بأن الرومَ سيَغْلِبونَ في بضْعِ سنين، فخرج أبو بكر رضي اللّه عنه إلى المسجد الحرام؛ فقال للكفار: أسركم أن غُلِبَتِ الرُّوم؟ فإن نبيَّنا أخبرنا عن اللّه تعالى: أنهم سَيغْلبون في بضع سنين، فقال له أُبَيُّ بن خلف وأخوه أمية بن خلف: يا أبا بكر: تعالَ فَلْنَتَنَاحَبْ، أي: نتراهنْ في ذلك، فراهنهم أبو بكر على خمس قلائص، والأجل ثلاث سنين، وذلك قبل أن يحرم القِمار فأخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك؛ فقال له: إن البضع إلى التسع، ولكن زِدْهم في الرهن؛ واستزدهم في الأجل، ففعل أبو بكرٍ، فجعلوا القلائصَ مائةً، والأجل تسعةَ أعوامٍ، فَغَلَبَتْ الرومُ فارسَ فِي أثْنَاءِ الأَجَلِ يوم بدر ورُوِيَ أن ذلك كان يوم الحُدَيْبِية، يوم بيعة الرضوان؛ وفي كلا اليومين كان نصرٌ من اللّه تعالى للمؤمنين، وذكر الناسُ سرورَ المؤمنين بغلبةِ الروم؛ من أجل أنهم أهل كتاب، وفرحت قريشٌ بغلبة الفرسِ؛ من أجل أنهم أهل أوثان. ونحوه من عبادة النار. وقوله تعالى: {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ}. أي: له إنفاذ الأحكام من قبل ومن بعد هذه الغلبةِ التي بين هؤلاء؛ ثم أخبر تعالى أن يوم غلبة الروم للفرس يفرح المؤمنون بنصر اللّه، {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} يريدُ: كُفَّارَ قريش والعرب، أي: لا يعملون أن الأمور من عند اللّه، وأن وعده لا يُخْلَفُ، وأن ما يورده نبيُّه حق. قال * ع *: وهذا الذي ذكرناه عُمْدَةُ ما قيل. ثم وصف تعالى الكفرةَ الذين لا يعلمون أمر اللّه وصِدْقَ وعدِه بأنهم إنما: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الأخرة هُمْ غافلون}، قال صاحب «الكلم الفارقية»: الدنيا طَبَقٌ مسموم، لا يعرف ضرره إلا أربابُ الفهوم. قوةُ الرغبة في الدنيا علامة ضعفها في الآخرة. بحسب انصرافُ الرغبةِ إلى الشيء، يجدُّ الراغبُ في طلبه، وتتوفَّرُ دواعيه على تحصيلهِ. المطلوبات تُظهر وتبيِّنُ أقدارَ طُلاَّبها؛ فمن شَرُفَتْ همَّتُهُ شَرُفَتْ رغبته؛ وعزت طلبته. يا غافل، سكر حبك لدنياك؛ وطول مُتابعتِكَ لَغاوِي هواك- أنساك عظمةَ مولاك؛ وَثَنَاكَ عن ذكره وألهاك؛ وَصَرَفَ وجه رغبتك عن آخرتك إلى دنياك. إنْ كنت من أَهل الاستِبْصَار، فألقِ ناظرَ رغبتك عن زخارف هذه الدار؛ فإنها مجمعُ الأكدار، ومنبَعُ المضار؛ وسِجْنُ الأَبرار؛ ومجلس سرور الأشرار. الدنيا كالحيةِ تجمع في أنيابها؛ سُمُومَ نَوَائِبِها؛ وتفرغه في صميمِ قلوب أبنائها، انتهى. قال عياض في الشفا: قال أبو العباس المبرِّد رحمه اللّه قَسَّم كِسرى أيامَه؛ فقال: يَصْلُحُ يَوْمَ الريح للنوم، ويومُ الغَيْم للصيد، ويوم المطر للشُّرْب واللهو، ويوم الشمس للحوائج. قال ابن خَالَوَيْهِ: ما كان أعرفَهم بسياسة دنياهم، {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الأخرة هُمْ غافلون}، لكنْ نبينَا محمداً صلى الله عليه وسلم جزأها ثلاثةَ أجزاء: جزءاً للَّه تعالى، وجزءاً لأهله، وجزءاً لنفسه. ثم جزَّأ جزءه بينه وبين الناس؛ فكان يستعين بالخاصة على العامة؛ وَيَقُولُ: أَبْلِغُوا حَاجَةَ مَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ إبْلاَغِي؛ فَإنَّهُ مَنْ أَبْلَغَ حَاجَةَ مَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ، أَمَّنَهُ اللّهُ يَوْمَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ، انتهى. والمؤمن المنهمك في أمور الدنيا التي هي أكبر همه، يأخذ من هذه الآيةِ بخط. نوَّر اللّهُ قلوبَنا بهداه. * ت *: قد تقدم ما جاء في الفكرة في «آل عمران». قال ابن عطاء اللّه: الفكرة سراج القلب؛ فإذا ذهبت فلا إضاءة له. وقال: ما نفع القلبَ شيءٌ مثلُ عُزْلَةٍ يدخل بها ميدانَ فكرة، انتهى وباقي الآية بَيِّن.
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)} وقوله عزَّ وجل: {أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرض...} الآية، يريدُ أثاروا الأرضَ بالمباني، والحرثِ، والحروبِ وسائرُ الحوادثِ التي أحدثوها هي كلُّها إثارةٌ للأرض؛ بعضها حقيقة وبعضها بتجوُّز، والضمير في {عَمَرُوهَا} الأول للماضين، وفي الثاني للحاضرين المعاصرين. وقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عاقبة الذين أَسَاءُواْ السوأى أَن كَذَّبُواْ بئايات الله}. قرأ نافع وغيره: «عَاقِبَةُ» بالرفع على أنها اسْمُ {كَانَ}، والخبر يجوز أن يكون {السوأى}، ويجوز أن يكونَ {أَن كَذَّبُواْ}، وتكونُ {السوأى} على هذا مفعولاً ب {أَساءُواْ} وإذا كان {السوأى} خبراً ف {أَن كَذَبُوا} مفعول من أجله. وقرأ حمزة والكسائي وغيرهما «عَاقِبَةَ» بالنصب على أنها خبرٌ مقدَّم، واسم كان أحد ما تقدم، {والسوأى}: مصدر كالرُّجْعَى، والشُّورَى، والفُتْيا. قال ابن عباس: {أَسَاءُوا} هنا بمعنى: كفروا، و{السوأى} هي النار. وعبارة البخاري: وقال مجاهد {السوأى} أي: الإساءة جزاء المسيئين، انتهى. والإبْلاَسُ: الكون في شَرٍّ، مع اليأسِ من الخير. * ص *: وقال الزجاج: المُبْلِسُ: الساكت المنقطع في حجته؛ اليائس من أن يَهْتَدِيَ إليها، انتهى.
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} وقوله جلت عظمته: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} معناه: في المنازل والأحكام والجزاء. قال قتادة: فُرْقَةً؛ واللّه لا اجتماعَ بعدها. و{يُحْبَرُونَ} معناه يُنَعَّمُونَ؛ قاله مجاهد. والحبرة والحبُورُ: السرور وقال يحيى بن أبي كثير: {يُحْبَرُونَ} معناه: يسمعون الأغاني؛ وهذا نوع من الحبرة. * ت *: وفي الصحيح من قول أبي موسى: لو شعرت بك يا رسول اللّه لحبَّرتْهُ لك تَحْبِيراً؛ أو كما قال. وقال * ص *: {يُحْبَرُونَ}: قال الزجاج: التَحْبِيرُ: التحسين، والحبر العالم، إنما هو من هذا المعنى؛ لأنه مُتَخَلِّقٌ بأحسَن أخلاق المؤمنين، والحِبْرُ المِدَادُ إنما سمي به؛ لأنه يُحَسَّنُ به، انتهى. قال الأصمعيُّ: ولا يقال: روضة حتى يكونَ فيها ماء؛ يشربُ منه. ومعنى: {فِي العذاب مُحْضَرُونَ} أي: مجموعون له: لا يغيب أحد عنه.
{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)} وقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الله...} الآية خطابٌ للمؤمنين بالأمر بالعبادة والحضِّ على الصلاة في هذه الأوقات، كأنه يقول سبحانه: إذا كان أمر هذه الفرق هكذا من النقمة والعذاب، فجِدَّ أيها المؤمن في طريق الفوز برحمة اللّه. ورَوَى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ {فَسُبْحَانَ اللّه حين تمسون وحين تصبحون} إلى قوله: {وكذلك تخرجون} أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي يَوْمِه ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَهُنَّ حِينَ يُمْسِي أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي لَيْلَتِهِ " رواه أبو داود، انتهى من «السلاح». قال ابن عباس وغيره: في هذه الآية تنبيهٌ علَى أربع صلواتٍ: المغرب، والصبح، والظهر، والعصر، قالوا: والعشاءُ الأخيرةُ هي في آية أخرى: في زلف الليل، وقد تقدم بيانُ هذا مُسْتَوْفَى في مَحَاله. وقوله تعالى: {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت...} الآية، تقدم بيانُها. ثم بعد هذه الأَمثِلَةِ القاضيةِ بتجويز بعث الأجساد عقلاً؛ ساق الخبر سبحانه بأن كذلك خروجَنا من قبورِنا، و{تَنتَشِرُونَ} معناه: تتصرفون وتتفرقون، والمودة والرحمة: هما على بابهما المشهور من التواد والتراهم؛ هذا هو البليغ. وقيل: غيرُ هذا. وقرأ الجمهور: «للعالَمين» بفتح اللام يعني: جميع العالم. وقرأ حفصٌ عن عاصم بكسرها على معنى: أَنَّ أهلَ الانتفاع بالنظر فيها إنما هم أهل العلم، وباقي الآية اطْلبه في مَحَالِّه؛ تجده إن شاء اللّه مبيناً، وهذا شأننا إلاحالة في هذا المختصر؛ على ما تقدم بيانه، فاعلمه راشداً. * ت *: وهذه الآياتُ والعبر إنما يعظمُ موقعُها في قلوب العارفين باللَّه سبحانه، ومن أكثرَ التفكُّرَ في عجائب صنع اللّه تعالى حَصَلَتْ له المعرفةُ باللّه سبحانه. قال الغَزَالِيُّ في «الإحياء»: وبحر المعرفة لا ساحل له؛ والإحاطة بكنه جلال اللّه محالٌ، وكلما كثرت المعرفةُ باللّه تعالى وصفاتِه. وأَفعاله وأسرار مملكته وقويت كثر النعيم في الآخرة؛ وعظم، كما أنه كلما كثر البذر وحسن كثر الزرع وحسن. وقال أيضاً في كتاب «شرح عجائب القلب» من «الإحياء»: وتكون سَعَةُ ملك العبد في الجنة؛ بحسب سِعَة معرفتِه باللّه، وبحسب ما يتجلى له من عظمة اللّه سبحانه، وصفاتِه، وأفعاله، انتهى. وقوله تعالى: {أَن تَقُومَ السماء والأرض} معناه: تثبت كقوله تعالى: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} [البقرة: 20]. وهذا كثير، والدعوة من الأرض: هي البعث ليوم القيامة، قال مكي: والأحسن عند أهل النظر أنَّ الوقفَ في هذه الآية يكونُ في آخرها، {تَخْرُجُونَ}؛ لأن مذهب سيبويهِ والخليلِ في «إذا» الثانية: أنها جوابُ الأولى، كأنه قال: ثم إذا دعاكم خرجتم؛ وهذا أسدُّ الأقوال. وقال * ص *: {إِذَا أَنتُمْ}، «إذا»: للمفاجأة، وهل هي ظرفُ مكانٍ أو ظرفَ زمان؟ خلاف، و{مِنَ الأرض} علَّقهُ الحُوفِيُّ ب «دَعَا»، وأجاز * ع *: أن يتعلقَ ب «دعوة» انتهى. وقرأ حمزة والكسائي: «تَخْرُجُونَ» بفتح التاء، والباقون بضمها، والقنوت هنا بمعنى الخضوعِ، والانقيادِ في طاعتهِ سبحانه. وإعادة الخلق: هو بعثُهم من القبور. وقوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} قال ابن عباس وغيره: المعنى: وهو هين عليه، وفي مصحف ابن مسعود «وهو هين عليه»، وفي بعض المصاحف «وكل هين عليه». وقال ابن عباس أيضاً وغيره: المعنى: وهو أيسر عليه، قال: ولكن هذا التفضيل إنَّما هو بحسْب معتقدِ البَشَرِ؛ وما يعطيهم النظر في الشاهد من أن الإعَادَةِ في كثير من الأشياء أهون علينا من البدأة. ولما جاء بلفظٍ فيه استعارة، وتشبيه بما يعهده الناس من أنفسهم خَلُصَ جانبُ العظمة؛ بأن جعل له المثلَ الأعْلَى الذي لا يلحقه تكييف؛ ولا تماثل مع شيء. ثم بين تعالى أمر الأصنام وفسادَ معتقدِ مَن يُشْرِكُها باللّه بضربه هذا المثلَ؛ وهو قوله: {ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ...} الآية، ومعناه: أَنكم أيها الناس إذا كان لكم عبيدٌ تَمْلِكُونَهم؛ فإنكم لا تشركونهم في أموالكم، ومُهِمِّ أموركم، ولا في شيء على جهة استواءَ المنزلة. وليس من شأنكم أن تخافوهم في أن يرثوا أموالكم، أو يقاسموكم إياها في حياتكم، كما يفعل بعضكم ببعض؛ فإذا كان هذا فيكم، فكيف تقولون: أن من عبيده وملكه شركاءُ في سلطانِه وألوهيته؛ هذا تفسير ابن عباس والجماعة.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} وقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً...} الآية، إقامة الوجه: هي تقويم المقصد والقوةِ على الجِدِّ في أعمال الدين. وخص الوجه؛ لأنه جامع حواس الإنسان؛ ولشرفه. و{فِطْرَتَ الله} نَصْبٌ على المصدر. وقيل: بفعل مضمر تقديره اتبع أو التزم فطرة اللّه، واختُلِفَ في الفطرة ها هنا، والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظةِ أَنها الخِلْقَةُ والهَيْئَةُ التي في نفسِ الطفلِ التي هي مُعَدَّةٌ مُهَيَّئَةٌ لأَنْ يَمِيزَ بها مصنوعات اللّه، ويستدلَّ بها على ربِّهِ، ويعرف شرائعه؛ ويؤمن به، فكأنه تعالى، قال: أقم وَجْهَك للدِّينِ الذي هو الحنيفُ، وهو فطرة اللّه الذي على الإعداد له. فُطِرَ البشرِ؛ لكن تعرضهم العوارضُ؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ...» الحديث، ثم يقول: {فِطْرَتَ الله} الآية، إلى {القيم} فذكرُ الأبوين إنما هما مثالٌ للعَوارِض التي هي كثيرةُ. وقال البخاريُّ: فِطْرَةُ اللّهِ: هِيَ الإسْلاَمُ، انتهى. وقوله تعالى: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} يحتمل أنْ يريدَ بها هذه الفطرةَ، ويحتمل أن يريدَ بها الإنحاء على الكفرة؛ اعترض به أثناء الكلام؛ كأنه يقول: أقم وجهَك للدين الذي من صفته كذا وكذا، فإنَّ هؤلاءِ الكفرةَ قد خَلَقَ اللّه لهم الكُفْرَ، و{لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله}، أي: أنهم لا يفلحون، وقيل غيرُ هذا، وقال البخاري: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} أي: لدين اللّه، وخُلُق الأولين دينُهم. انتهى. و{القَيِّم} بناءُ مبَالَغَةٍ مِنَ القيام الذي هو بمعنى الاستقامة، و{مُنِيبِينَ} يحتمل أنْ يكونَ حالاً من قوله {فَطَرَ الناس} لا سِيَّمَا عَلى رَأْي مَنْ رَأَى أَنَّ ذلكَ خصوصٌ في المؤمنين، ويحتمل أن يكون حالاً من قوله {أَقِم وَجْهَكَ} وجمعه: لأن الخطاب بإقامة الوجه هو للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته نظيرها قوله تعالى: {ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} [الطلاق: 1]. والمشركون المشار إليهم في هذه الآية: هم اليهودُ والنصارى؛ قاله قتادة، وقيل غير هذا.
{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)} وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ...} الآية، ابتداءُ إنحاءٍ على عَبَدَةِ الأَصْنَام. قال * ع *: ويلحق من هذه الألفاظ شيءٌ للمؤمنين؛ إذا جاءهم فَرَجٌ بعد شدةٍ؛ فعلقوا ذلك بمخلوقين، أو بِحذْف آرائهم، وغير ذلك؛ لأن فيه شكر للَّه تعالى؛ ويسمى تَشْرَيكاً مجَازاً. والسلطانُ هنا البرهانُ من رسولٍ أو كتابٍ، ونحوه. وقوله تعالى: {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} معناه فهو يُظْهِر حجتَهم، ويغلبُ مذهبَهم، وينطق بشركهم. ثم قال تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا}، وكل أحد يأخذ من هذه الخُلُقِ بقسطِ، فالمقل والمكثر، إلا من ربطتِ الشريعةُ جأشَه، ونَهَجَتِ السنة سبيلَه، وتأدَّب بآداب اللّه، فصبر عند الضراء؛ وشكر عند السراء، ولم يَبْطُرْ عند النِّعْمَةِ، ولا قنط عند الابتلاءِ، والقَنَطُ: اليأسُ الصريحُ. ثم ذكر تعالى الأمر الذي من اعتبره؛ لم يَيْأْسْ من رَّوْح اللّهِ وهو أنه سبحانه يَخُصُّ من يشاء من عبادهِ بِبَسْطِ الرزق، ويقدر على من يشاء منهم. فينبغي لكلِ عَبْدٍ أنْ يكونَ راجياً ما عند ربه. ثم أمر تعالى نبيَّه عليه السلام أمراً تَدْخُلُ فيه أمته على جهة الندب بإيتاء ذي القربى حقَّه من صلة المالِ، وحسنِ المعاشرة ولين القول، قال الحسن: حقه المواساةُ في اليُسْر، وقولٌ مَيْسُورٌ في العُسْرِ. قال * ع *: ومعظمُ ما قُصِدَ أمرُ المعونةِ بالمال. وقرأ الجمهور: {وَمَا ءَاتَيْتُمْ} بمعنى: أعطتيم، وقرأ ابن كثير بغير مد، وما فعلتم، وأجمعوا على المد في قوله {وَمَا ءَاتَيْتُمْ مِّن زكواة} والربا: الزيادة. قال ابن عباس وغيره: هذه الآية نزلتُ في هباتِ الثَّوابِ. قال * ع *: وما جَرَى مَجْرَاها مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه؛ كالسِّلمِ وغيرِه، فهو وإن كانَ لاَ إثْمَ فيه؛ فَلا أجْرَ فيه ولاَ زيادة عند اللّه تعالى، وما أعْطَى الإنسانُ تَنْمِيَةً لِمالهِ وتطهيراً؛ يريدُ بذلك وَجْهَ اللَّه تعالى؛ فذلك هُو الذي يُجَازَى به أضعَافاً مضَاعَفَةً على ما شاء اللّه له. وقرأ جمهور السبعةِ «ليربوا» بإسناد الفِعل إلى الربا، وقرأ نافعٌ وحدَه «لِتُرْبُوا» وباقي الآية بيِّن. ثم ذكر تعالى على جهة العبرة ما ظهرَ من الفسَادِ بسبب المعَاصي، قال مجاهد: البَرُّ البلاد البعيدة من البحر، والبحرُ السواحلُ والمدنُ التي على ضِفَّة البحرِ، وظهورُ الفساد فيهما: هو بارتفاعِ البركاتِ، ووقوعِ الرزايا، وحدوثِ الفتنِ وتغلب العدوِّ، وهذه الثلاثةُ توجَد في البر والبحر، قال ابن عباس: الفسادُ في البحر: انقطاع صَيْدِه بذَنَوب بني آدم، وقلما توجد أمة فاضلةٌ مُطِيعَةٌ مُسْتَقِيمَةُ الأعمال؛ إلا يدفعُ اللّه عنها هذه الأمور، والأمرُ بالعكس في المعاصي، وبطر النعمة؛ ليذيقهم عاقبة بعض ما عملوا ويعفوا عن كثير. و {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، أي: يتوبون ويراجعونَ بصائَرهم فِي طاعةِ ربهِم؛ ثم حذَّر تعالى من يومِ القيامةِ تحذيراً يَعُمُّ العالمَ وإياهُمُ المقصد بقوله {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ القيم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله} الآية {وَلاَ مَرد لَهُ}: معناه: لَيْسَ فِيه رُجُوعٌ لِعَمَلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُريد لاَ يَردُّهُ رَادٌّ. وهذا ظاهر بحسبِ اللفظ و{يَصَّدَّعُونَ}: معناه: يَتَفَرَّقُونَ بعد جمعهم إلى الجنةِ وإلى النار. ثم ذكر تعالى من آياته أشياءَ وهي ما في الرِّيحِ من المنافِع وذلك أنها بشرى بالمطر ويُلَقَّحُ بها الشجر، وغير ذلك، وتجري بها السفن في البحر. ثم آنسَ سبحانه نبيه عليه السلام بقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بالبينات...} الآية، ثم وعد تعالى محمداً عليه السلام وأمّته النصرَ بقوله: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين} وحقاً خبرَ كانَ قدَّمه اهتماماً.
{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)} وقوله تعالى: {الله الذي يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً...} الآية. الإثارةُ: تَحْريكُها من سكونِها، وتَسْييرُها، وبَسْطُه في السماءِ هو نَشْرهُ في الآفاقِ والكِسَفُ: القِطَع. وقوله: {مِّن قَبْلِهِ}: تأكيدٌ أفادَ الإعلامَ بسرعةِ تقلبِ قُلوبِ البَشَرِ من الإبلاس إلى الاستبشارِ، والإبْلاسُ: الكَوْنُ فِي حالِ سُوءٍ مَعَ اليأسِ من زوالها. وقوله تعالى: {كَيْفَ يُحْيِي} الضميرُ في {يُحْيِي} يُحْتَمَلُ أن يكونَ للأثرِ ويُحْتَمَلُ أنْ يعودَ عَلَى اللّه تعالى وهو أظهر. ثم أخْبَرَ تعالى عَن حالِ تقلب بني إدمَ، في أنه بعد الاستبشار بالمطر، إن بعثَ اللّه ريحاً فاصفرَّ بها النباتُ؛ ظلوا يكْفرونَ قلقاً منهم وقِلَّةٌ تسليمٍ للَّه تعالى، والضمير في {رأوه} للنباتِ واللامُ في {لئن} مؤذِنة بمجيءِ القَسَمِ وفي {لظلوا} لاَمُ القَسَم. وقوله تعالى: {فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى...} الآية: استعارةٌ للكُفَّارِ وقد تقدم بيانُ ذلك في «سورة النمل».
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)} وقوله تعالى: {الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ} قال كثير من اللغويين: ضَمُّ الضادِ في البدن، وفتحها في العقل، وهذه الآية إنما يراد بها حال الجِسم، والضُّعْفُ الأول هو: كونُ الإنسان من ماءٍ مهينٍ، والقوة بعد ذلك: الشَّبِيْبَةُ وشدة الأسْر والضُّعْف الثَّانِي هوَ الهَرَمُ والشَيْخُوخَةُ، هذا قولُ قتادةَ وغيره ورَوَى أبُو داودَ فِي سننه بسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَن عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عن أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قال: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَنْتِفُوا الشَّيْبَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَشِيبُ شَيْبَةً فِي الإسْلاَمِ إلاَّ كَانَتْ لَهُ نُوراً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وفي رواية «إلاَّ كَتَبَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِهَا حَسَنَةً وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً» انتهى. ثم أخْبَرَ عز وجل عن يوم القيامة فقال: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ} أي: تحت التراب {غَيْرَ سَاعَةٍ} وقيل: المعنى: ما لبثوا في الدنيا كأنهم استقلوها. {كَذَلِكَ كَانُواْ} في الدنيا {يُؤْفَكُونَ} أي: يُصْرَفُونَ عن الحق. قال * ص *: {مَا لَبِثُوا}: جوابُ القسمِ على المعنى، ولو حُكِي قولهم لَكَانَ ما لبِثْنَا؛ انتهى. ثم أخْبَر تعالى أن الكفَرَة لاَ يَنْفَعْهُمْ يومئذ اعتذارٌ ولا يُعْطَوْنَ عتبى، وهي الرِّضا وباقي الآية بيِّن، وللَّه الحمدُ.
{الم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)} قوله عزَّ وجل: {الم * تِلْكَ ءايات الكتاب الحكيم * هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ}: خصَّه للمحسنين من حيثُ لهم نفْعه، وإلا فهو هدًى في نفسه. وقوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث} رُوِيَ: أن الآيةَ نَزَلَتْ فِي شأن رجلٍ من قريش؛ اشترى جاريةً مغنيةً؛ لِتغنِّي له بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: إنه ابن خطل. وقيل: نَزَلَتْ في النضر بن الحارث وقيل غيرُ هذا والذي يترجح أن الآية نَزَلَتْ في لَهْوِ حَدِيثٍ. مُضَافٍ إلى كُفْر؛ فلذلك اشتدت ألفاظ الآية، و{لهو الحديث} كل ما يُلهى من غناءٍ وخِناء. ونحوه، والآيةُ باقيةُ المعْنَى في الأَمة غَابِرَ الدهرِ؛ لكنْ ليسَ ليضلوا عن سبيل اللّه، ولا ليتخذوا آياتِ اللّه هزواً، ولا عليهم هذا الوعيد؛ بل ليعطلوا عبادةً، ويقطعوا زمناً بمكروه. قال ابن العربي في «أحكامه»: ورَوَى ابن وهبٍ عن مالكٍ عن محمدِ بن المنكدرِ: أنَّ اللّه تعالى يقول يوم القيامة: أين الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان؛ أدخلوهم في أرض المسك، ثم يقول اللّه تعالى للملائكة: أسمعوهم ثنائي وحمدي؛ وأخبروهم أن لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. انتهى.
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)} وقوله عزَّ وجل: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا ولى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} الوَقْرُ في الأذن: الثِّقْلُ الذي يَعْسُر معه إدراك المَسْمُوعَاتِ، و«الرواسي»: هي الجبالُ و«المَيْد»: التحرك يَمْنَةً ويَسْرَةً، وما قرب من ذلك، والزوج: النوع والصنف. و{كَرِيم}: مدحه بكرم جَوْهره، وحُسْن منظرِه، وغير ذلك. ثم وقف تعالى الكفرةَ على جهة التوبيخ فقال: {هذا خَلْقُ الله فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ}.
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} وقوله تعالى: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة} اختلف في لقمان؛ هل هو نبيٌّ أو رجلٌ صالح فقط، وقال ابن عمر: سمعْت النبي صلى الله عليه وسلم يقولُ: " لَمْ يَكُنْ لُقْمَانُ نَبِيّاً؛ وَلَكِنْ كَانَ عَبْداً كَثِيرَ التَّفْكِيرِ، حَسَنَ اليَقِينِ، أَحَبَّ اللّهَ فَأَحَبَّهُ، فَمَنَّ عَلَيْهِ بِالْحِكْمَةِ وَخَيَّرَهُ فِي أَنْ يَجْعَلَهُ خَلِيفَةً؛ يَحْكُمُ بِالْحَقِّ، فَقَالَ: رَبِّ إنْ خَبَّرْتَنِي، قَبِلْتُ العَافِيَةَ، وَتَرَكْتُ البَلاَءَ، وَإنْ عَزَمْتَ عَلَيَّ، فَسَمْعاً وَطَاعَةً، فَإنَّكَ سَتَعْصِمَنِي، وَكَانَ قاضياً في بني إسرائيل نُوبِيّاً أَسْوَدَ، مشققَ الرِّجْلَيْنِ، ذا مَشَافِر "، قاله سعيدُ بن المسيِّب وابن عباس وجماعة: وقال له رَجُلٌ كان قد رعى معه الغنم: مَا بَلَغَ بِكَ يا لقمان مَا أرى؟ قَالَ: صِدْقُ الحديثِ، وأداءُ الأَمانةِ، وتركِي ما لا يعنيني، وحِكَمُ لُقْمَانَ كثيرةٌ مأثُورَة. قال ابن العربي في «أحكامه»: ورَوَى عُلماؤُنا عن مالكِ قال: قال لقمان لابنه: يا بُنَيَّ، إنَّ الناسَ قد تطاوَلَ عليهم ما يوعدون، وهم إلى الآخرةِ سِراعاً يذهبون، وإنك قد اسْتَدْبَرْت الدنيا مذ كنت، واستقبلت الآخرة مع أَنْفَاسِك، وإن داراً ستسير إليها؛ أقرب إليك من دار تخرج منها، انتهى. وقوله: {أَنِ اشكر} يجوز أن تكونَ «أنْ» في مَوضعِ نصب على إسقاط حرف الجر، أي: بأنِ اشْكُرْ للَّهِ ويجوز أن تكونَ مفسِّرَةً، أي: كانت حكمتُه دائرة على الشكر للَّه، وجميع العبادات داخلةٌ في الشكر للَّه عز وجل، و{حَمِيدٌ} بمعنى: محمود، أي: هو مستحق ذلك بذاته وصفاته.
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)} وقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ} هاتان الآيتان اعتراض أثناء وصية لقمان و{وَهْناً على وَهْنٍ} معناه ضعفاً على ضعف، كأنه قال: حملته أمه والضَّعْفُ يتزيد بعد الضَّعْفِ إلى أن ينقضي أمده. وقال * ص *: {وَهْناً على وَهْنٍ} حالٌ من أمه أي شدة بعد شدة، أَوْ جَهْداً على جَهْدِ، وقيل {وَهْناً} نطفةٌ، ثم علقةٌ، فيكونُ حالاً من الضميرِ المنصوبِ في {حَمَلَتْهُ}. انتهى. وقوله تعالى: {أَنِ اشكر لِي ولوالديك}. قال سفيان بن عُيَيْنَةَ: من صلى الصلواتِ الخمسَ فقد شكر اللّه تعالى، ومن دعا لوالديه في إدبار الصلوات فقد شكرهما. وقوله سبحانه: {وَإِن جاهداك على أَن تُشْرِكَ بِي} رُوِي أنَّ هاتين الآيتين نزلتا في شأن سَعْدِ بن أبي وقاص وأمه حَمْنَة بنْتِ أبي سفيانَ، على ما تقدم بيانُه، وجملةُ هذا البابِ؛ أن طاعةَ الأبوين لا تُراعى في ركوب كبيرةٍ، ولا في ترك فريضةٍ على الأعيان، وتلزم طاعتُهما في المباحاتِ وتستحسن في ترك الطاعات الندب. وقوله سبحانه: {واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} وصيةٌ لجميع العالم. وهذه سبيل الأنبياء والصالحين. وقوله تعالى حاكياً عن لقمان {يابني إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ...} الآية: ذكرَ كثيرٌ من المفسرين: إنه أراد مثقال حبة من أعمال المعاصي والطاعات، وبهذا المعنى يتحصل في الموعظة ترجيةٌ وتَخْويفٌ منضاف إلى تَبْيِينِ قدرة اللّه تعالى. وقوله: {واصبر على مَآ أَصَابَكَ} يَقْتَضِي حضاً على تغيير المنكر وإن نال ضرراً، فهو إشعارٌ بأن المغيِّر يؤذي أحياناً. وقوله: {إِنَّ ذلك مِن عَزْمِ الأمور} يحتمل أن يُرِيْدَ مما عزمه اللّهُ وأمَرَ بهِ، قاله ابن جريج: ويحتمل أن يريدَ أنَّ ذلك من مكارم الأخلاق، وعزائم أهل الحزم السالكينَ طريقَ النجاةِ؛ قاله جماعة. والصَّعَرُ: والميْل، فمعنى الآية: ولا تُمِلْ خَدَّك للناس كِبْراً عليهم وإعجاباً واحتقاراً لهم؛ قاله ابن عباس وجماعة. وعبارة البخاري ولا تُصَعِر، أي: لا تعرض والتَّصَاعُر: الإعْرَاضُ بالوجه؛ انتهى. والمَرَحُ: النَّشَاط، والمشي مَرَحَا: هو في غير شُغْل، ولغير حاجة، وأهل هذه الخُلُقِ ملازمون للفخر والخُيَلاَءِ، فالمَرِحُ مختالُ في مَشيه، وقد ورد في صحيح الأحاديث في جميع ذلك وعيدٌ شديدٌ يطول بنا سردَهُ. قال عيَاضٌ: كان أبو إسحاقَ الجبنياني قَلَّ ما يتركُ ثَلاَثَ كَلِماتٍ؛ وفيهن الخيرُ كلُّه: اتَّبِعْ وَلاَ تَبْتَدِعْ. اتضع وَلاَ تَرْتَفِعْ، مَنْ وَرِعَ لا يَتَّسِعْ انتهى. وغضُّ الصوتِ أوقرُ للمتكلم وأبسطُ لنفس السامع وفهمِه، ثم عَارَضَ ممثلاً بصوت الحَمِير على جهة التشبيه، أي: تلك هي التي بَعُدت عن الغَض فهِي أنكَرُ الأصوات، فكذلك ما بعُد عن الغَضِّ من أصوات البشر؛ فهو في طريقِ تلك، وفي الحديث: «إذَا سِمِعْتُمْ نَهِيقَ الحَمِيرِ، فَتَعَوَّذُوا بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ فَإنَّهَا رَأَتْ شَيْطاناً». وقال سفيانُ الثوري: صياح كل شيءٍ تسبيحٌ إلا صياحُ الحمير. * ت *: ولفظ الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " إذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فاسألوا اللّهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإنَّهَا رَأَتْ مَلَكاً، وَإذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحِمَارِ، فَتَعَوَّذُوا بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ فَأَنَّهُ رأى شَيْطَاناً " رواه الجماعَة إلا ابن ماجَهْ. وفي لفظ النسائي: " إذَا سَمِعْتُمْ الدِّيَكَةَ تَصِيحُ بِاللَّيْلِ "، وعن جابرٍ قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " إذَا سَمِعْتُمْ نِبَاحَ الْكِلاَبِ وَنَهِيقَ الْحمِيرِ مِنَ اللَّيْلِ، فَتَعَوَّذُوا بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛ فَإنَّهَا ترى مَا لاَ تَرَوْنَ، وَأَقِلُّوا الخُرُوجَ إذَا جَدَّتْ؛ فَإنَّ اللّهَ يَبُثُّ في لَيْلِهِ مِنْ خَلْقِهِ مَا يَشَاءُ " رواه أبو داود النسائي والحاكم في «المستدرك». واللفظ له، وقال صحيح على شرط مسلم؛ انتهى، من «السلاح». وقوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهرة وَبَاطِنَةً}. قال المُحَاسبيُّ رحمه اللّه الظاهرة: نعم الدنيا، والباطنةُ: نعم العقبى. والظاهر عندي التعميمُ. ثم وقف تعالى الكفَرَة على اتِّبَاعهِم دين آبائِهم أيكونُ وهم بحالِ من يصير إلى عذاب السعير، فكأنّ القائل منهم يقول: هم يتبعون دين آبائهم ولو كان مصيرهم إلى السعير. فدخلت ألف التوقيف على حرف العطف؛ كما كان اتّساقُ الكلام فيه؛ فتأملْه.
{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)} وقوله تعالى: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله} معناه يُخْلِصُ ويُوَجِّهْ ويستسلمْ به والوجْه هنا: الجارحة، اسْتُعِيْرَ للمقصِد؛ لأَنَّ القاصدَ إلى شيء فهو مستقبله بوجهه، فاستعيرَ ذلك للمعاني، والمحسنُ: الذي جَمَعَ القولَ والعمل، وهو الذي شَرَحه صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان. والمتاعُ القليلُ هنا هو العمر في الدنيا. وقوله: {قُلِ الحمد لِلَّهِ} أي: على ظهور الحجة.
{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)} وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ...} الآية. روي عن ابن عباس: أن سببَ نزولها أن اليهودَ قالت: يا محمد؛ كيف عَنَيْتَنَا: هذا القول، {وَمَا أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85]. ونحن قد أُوتينا التوراةَ تِبْيَاناً لكل شيء؟ فنزلت الآية، وقيل غير هذا. قال * ع *: وهذه الآية بَحْرُ نظرٍ وفكرةٍ، نَوَّرَ اللّه قلوبَنَا بهداه. وقوله تعالى: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة} أي: لأنه كله ب «كن» فيكون، قاله مجاهد. وقوله تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} يريد: القيامة. وقوله: {بِنِعْمَتِ الله} يحتمل أن يريدَ ما تحملَه السفنُ من الطَّعامِ والأرزاقِ والتجاراتِ، فالباء: للإلْزَاقِ، ويحتمل أن يريدَ بالريحِ وتسخيرِ اللّه البحرَ ونحوَ هذا، فالباءُ باءُ السببِ. وذكر تعالى من صفات المؤمن الصبَّارَ والشَّكُورَ؛ لأنهما عُظْمُ أخلاقه، الصبرُ على الطاعاتِ وعلى النوائبِ، وعن الشهواتِ، والشكرُ على الضراءِ والسراءِ. وقال الشعبي: الصبرُ نصفُ الإيمانِ، والشكرُ نصفُه الآخرُ، واليقينُ الإيمان كله. و«غَشِي» غطَّى أو قارَب، والظُّلَلِ: السحابُ. وقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ}. قال الحسن: منهم مؤمن يعرف حق اللّه في هذه النعم، والختَّار القبيحُ الغَدْرِ، وذلك أن مِنَن اللّه على العباد كأنها عهود ومِنَنٌ يلزمَ عنها أداء شكرها، والعبادةُ لمسديها، فمن كفر ذلك، وجحد به، فكأنه ختر، وخان، قال الحسن: الختارُ هو العدار. و{كَفُورٍ}: بناء مبالغة.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} وقوله تعالى: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ...} الآية يَجْزِي مَعْنَاه يَقْضي، والمعنى: لا ينفعه بشيء، وقرأ الجمهور: «الغَرور»: بفتح الغَيْنِ وهو الشيطانُ؛ قاله مجاهد وغيره، واعلم أيها الأخ أنّ مَنْ فَهِمَ كَلامَ رَبِّه وَرُزِقَ التوفيقَ لم يَنْخَدِعْ بغُرورِ الدنيا وزخرفها الفاني؛ بَل يَصْرِفُ هِمَّتَه بالكُلِّيَةِ إلى التزود لآخرته؛ ساعياً في مَرْضَاةِ ربه، وأنَّ مَنْ أيقنَ أنَّ اللّهَ يطلبُه صَدَقَ الطلبَ إليه كما قاله الإمام العارفُ باللّه ابن عطاء اللّه. وإنه لا بد لبناءِ هذا الوجودِ أن تَنْهَدِمَ دعائمُه وأن تسلب كرائِمهُ، فالعاقل؛ من كان بما هو أبقى أفرح منه بما هو يفنى، قد أشرق نورُه وظهرت تباشيرُه، فَصَدَفَ عن هذه الدار مُغْضِياً، وأعرض عَنها مولياً، فلم يتخذْها وطناً، ولا جعلها سكناً؛ بل أنْهَضَ الهمَّةَ فيها إلى اللّهِ تعالى وَصَارَ فِيهَا مُسْتَعِيناً به في القدومِ عليه، فما زالت مطيةُ عَزْمِهِ لا يَقِرُّ قرارُها. دائاً تَسْيَارُهَا، إلى أن أناخَتْ بِحَضْرَةِ القُدَسِ، وبساطِ الإنْسِ، انتهى. وَرَوَيْنَا في «جامع الترمذي» عن أبي أُمَامَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ أَغْبَطَ أَوْلِيَائِي عِنْدِي لَمُؤْمِنٌ خَفِيفٌ الحَاذِ ذُو حَظٍّ مِنَ الصَّلاَةِ، أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَأَطَاعَهُ فِي السِّرَّ، وَكَانَ غَامِضاً فِي النَّاسِ؛ لاَ يُشَارُ إلَيْهِ بِالأَصَابِعِ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافاً؛ فَصَبَرَ على ذَلِكَ، ثُمَّ نَفَضَ بِيَدِهِ فَقَالَ: عُجِّلَتْ مَنِيَّتُهُ، قَلَّتْ نَوَائِحُهُ؛ قَلَّ تراثه "، قال أبو عيسى: وبهذا الإسنادِ عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: " عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْمَاءَ مَكَّةَ ذَهَباً، قُلْتُ لاَ، يَا رَبِّ، ولكن أَشْبَعُ يَوْماً وَأَجُوعُ يَوْماً، أَوْ قَالَ: ثَلاَثاً أَوْ نَحْوَ هذا، فَإذَا جُعْتُ، تَضَرَّعْتُ إلَيْكَ، وَإذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمِدْتُكَ " قال أبو عيسى: هذا حَديثٌ حسنٌ، وفي الباب عن فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، انتهى. والغُرُورُ: التَّطْمِيعُ بما لا يَحْصُلُ. وقال ابن جُبَيْرٍ: معنى الآية: أن تَعملَ المعصيةَ وتَتَمَنَّى المغفرة، وفي الحديثِ الصحيح: عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " خَمْسٌ مِنَ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إلاَّ اللَّهُ تعالى؛ وتلا الآية: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزّلُ الغيث...} إلى آخرها " قال أبو حيَّان {بِأَيِ أَرْضٍ}: الباء ظَرْفِيةٌ والجملة في موضع نَصْبٍ ب {تَدْرِي}. انتهى.
{الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)} قال جابر: ما كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينام حتى يقرأ: {الم}، و{القانتين تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك}. و{تَنزِيلُ} يَصح أن يَرْتَفِعَ بالابتداء، والخبر: {لاَ رَيْبَ} ويَصحُّ أن يرتفعَ على أنه خبر مبتدإٍ محذوفٍ، أي: ذلك تنزيل، والريبُ: الشك، وكذلك هو في كل القرآن إلا قوله {رَيْبَ المنون} [الطور: 30]. وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ} إضرابٌ؛ كأنَّه قال: بل أيقولون: ثم ردَّ على مقالتِهم وأخبَرَ أنّه الحقُّ من عند اللّه. وقوله سبحانه: {مَا ءاتاهم} أي: لم يُبَاشِرْهم ولا رأوه هم ولا آباؤهم العربُ. وقوله تعالى: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] يعم من بُوشِر من النذُر ومَنْ سَمِع بهِ، فالعربُ مِن الأمم التي خلت فيها النذر على هذا الوجه، لأنها علمت بإبرَاهيم وبنيه، وبدعوتهم، ولم يأتهم نذيرٌ مباشرٌ لهم سوى محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس ومقاتل: المعنى: لم يأتهم نذير في الفترة بين عيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)} وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السماء إِلَى الأرض...} الآية، الأمر اسم جنسٍ لجميعِ الأمور، والمعنى يُنَفِّذُ سُبْحَانِه قضاءَه بجميع ما يشاءه، ثم يعرج إليه خبرُ ذلك في يوم من أيام الدنيا؛ مقداره أن لو سِيرَ فيه السيرَ المعروف، من البشر ألفُ سنة، أي: نزولاً وعروجاً لأن مَا بين السماء والأرض خمس مائة سنة، هذا قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقيل: المعنى: يدبر الأمر من السماء إلى الأَرض في مدة الدنيا، ثم يعرج إليه يوم القيامة، ويوم القيامة مقداره ألف سنة من عَدِّنا، وهو على الكفار قَدْرُ خمسينَ ألفِ سنة. وقيل: غَيْرَ هذا وقرأ الجمهور: «الذي أحسن كل شيء خلقَه»: بفتح اللام على أنه فعلٌ ماضٍ ومعنى: «أحسن»: أَتْقَنَ وأحْكَمَ فهو حَسَنْ من جهة مَا هو لمقاصِده التي أريدَ لها، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: «خَلْقه»: بسكون اللام وذهب بعض الناس على هذه القراءة إلى أن: «أحسن» هنا معناه: ألْهَمَ وأن هذه الآية بمعنى قوله تعالى: {أعطى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50]. أي: ألهَمَ. والإنسانُ هنا آدم عليه السلام والمَهِينُ: الضعيف، {وَنَفَخَ}: عبارة عن إفاضَةِ الرُّوحِ في جَسَدِ آدم عليه السلام والضميرُ في {رُّوحِهِ} للَّهِ تعالى، وهي إضافة مُلْكٍ إلى مَالِكٍ وخَلْقٍ إلَى خَالِقٍ، ويُحْتَمل أن يكونَ الإنسانَ في هذه الآية اسمَ جنسٍ و{قَلِيلاً} صِفَةً لِمصدَرٍ محذوف.
{وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)} وقوله تعالى: {وَقَالُواْ أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض} أي: تَلَفْنَا وَتَقَطَّعَتْ أَوْصَالُنَا، فذهبنا في التراب حَتَّى لَمْ نُوجَدْ؛ {أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي: أَنُخْلَقُ بَعْدَ ذلك خَلقاً جديداً؛ إنكاراً منهم للبعثِ واستبعاداً له، و{يتوفاكم} معناه يَسْتَوِفِيكم؛ رُوِيَ عَن مجاهدٍ: أن الدنّيَا بَيْنَ يَدَيْ مَلَكِ المَوتِ كالطِّسْتِ بَيْنَ يَدَي الإنْسَانِ يأخُذُ مِنْ حَيثُ أُمِرَ. وقوله تعالى: {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ} الآية تَعْجِيبٌ لمحمَّد عليه السلام وأمته من حالِ الكفرةِ، ومَا حَلَّ بهم، وجوابٌ {لَو} محذوفٌ؛ لأنَّ حذفَه أَهْوَلُ في النفوس، وتنكيسُ رؤوسهم هو من الذل واليأسِ والهَمِّ بحلُول العذابِ. وقولهم {أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} أي: ما كنا نُخْبَرُ به في الدنيا، ثم طلبوا الرَّجْعَةَ حينَ لاَ يَنْفَعُ ذَلكَ. ثمَّ أخْبَرَ تعالى عن نَفْسهِ أنَّه لو شَاء لهدى الناس أجميعن؛ بأن يَلْطُفُ بهم لُطْفاً يؤمنونَ به، ويخترع الإيمانَ في نفوسهم، هذا مذهبُ أهلِ السُّنَّةِ، و{الجنة}: الشياطينُ، و{نَسِيتُمْ} معناه: تركتم؛ قاله ابن عباس وغيره. وقوله: {إِنَّا نسيناكم} سَمَّى العقوبة باسم الذنب. ثم أثْنَى سبحانه على القوم الذين يؤمنون بآياته، ووصَفَهم بالصفة الحُسْنَى من سجودهم عند التذكير، وتسبيحِهم وعدمِ استكبارهم.
|